كانت الساعة الرابعة مساءً حين نادت سعيدة جارتها سعاد وأيضا الجارة الأخرى العروس نادية..
وكان الرائي يبصر من بعيد تصاعد الدخان من بيت سعيدة.. ورائحة الدخان مميزة كالعادة وهى مثار تعليقات أهل القرية حين تصل إلى أنوفهم وخاصة غير المتزوجين منهم ويصيح بعضهم ((يا الله تعرس لينا)).
كانت سعيدة مشهورة بكثرة الدخان فى بيتها.. ولا يمر يومان إلا ويتصاعد من بيتها ذلك الدخان.. وعندما يسألنها نساء القرية كانت تتحجج كل مرة بحجة جديدة.. آخر تلك الحجج أنها تقوم بعملية الدخان لأجل طفلها المريض.. حضرت سعاد على عجل.. وحضرت نادية وفى يدها كيس أسود به كمية من الطلح الإضافي والذي تخفيه عن أعين الفضوليين داخل ثوبها مع أن الأمر ليس عيباً ولكن لحداثة تجربتها أراها تمارس الخجل أيضا..
سألت سعيدة نادية عن ما تخفيه فأرتها الطلح.. هنا ضحكت سعيدة وقالت لها:-
:- ما دا الموضوع الناديتكم عشانه زاته..
نادية مستغربة:-
:- موضوع شنو يا سعيدة..
:- موضوع الدخان البنعمل فيهو كل يومين دا..
:- هى ما تعملي هسع في زول سألك..
:- إنتِ ما فاهماني يا نادية..
في ذلك الوقت كانت سعاد تجلس في تلك الحفرة المحترقة ولم تعر الونسة اهتماما لأنها ستعرف ما يقال حين تنتهي من طقوسها..
:- أها الحكاية شنو يا سعيدة والله وقفتي قلبي؟ ..
:- الحكاية وما فيها قالوا إنو الدخان البنعمل فيهو يضر بالأرض..
:- تطلقها سعاد ضحكة مجلجلة:- مالها يا بت أمي الأرض بتتحرق هدا نحن بنحرق في جلدنا وما قلنا شئ خلي الأرض.. ومن قمت ما سمعت لي بأرض بتحرق.. إنتي أظنك دايرة تخلي الدخان يا سعيدة ودايرة ليك سبب.. ونحن ما بنخليهو كان تصبح رماد.. إنتي دايرة يطلقونا ولا شنو؟.. يا مره هييي والله أبو أولادي ما يرضى كله كله..
:- هى أنا ما ألَّفته من راسي.. دا كلام قالته لي عواطف بت الزين بعد جيّتها من الخرطوم أمس..
:- اها وقت قالوهو ليك مالك ما وقفتيهو وقت مقتنعة..
:- والله قلت أعمله آخر مره.. ما معروف يمكن الحكومة تطلع قرار وتقول تاني ما نتدخن..
:- هههههه تطلقها سعاد ضحكة.. يجازي محنك ااسعدية نحن لسع فى شهرنا الأول دايرين توقفوهو والله ولا بنوقفه ولا حاجة.. وبعدين عواطف دي من ما مشت الخرطوم وسكنت فيها بقت كلها محن ومصائب.. ودا السبب الطلقوها بيهو ذاتو.
:- كدي أسكتن أسكتن هديك عواطف جاية علينا.. كدي قومي يا سعاد ألنطفي الدخان دا..
:- والله كان أتحرق ما أقوم.. خليها بعد تجي النشوف قصتها شنو.
تدخل عواطف.. وبعد السلام والسؤال عن الأهل جميعهم نراها تغطي أنفها خوفاً من استنشاق الدخان إليها..
تبادرها سعيدة:- هى يا عواطف ورّي النسوان ديل القصة الكلمتيني بيها أمس أبَنْ يقتنعن لي كله كله..
نادية:- هى عاد ما دايرين نفهم القصة في الأول وبعد كدا نقتنع..
عواطف امرأة تبدو على ملامحها الثقافة.. فهي تسلم بطرف يدها.. وتضع الثوب بدون طرحة على رأسها.. وكثيراً ما ينحسر فيكشف شعرها المرتب بعناية فائقة.. تخرجت من الجامعة وحصلت على وظيفة بإحدى الجمعيات التطوعية بالخرطوم.. مثقفة أكثر من احتياجاتها للثقافة.. يبدو أن لا أحد يستطيع مجاراتها عند التحدث.. فهي تملك الكثير من المعلومات المهمة حول العالم بأسره.
تقول عواطف :- العالم بقى يساهم بكمية كبيرة في ثقب الأوزون.. وذلك نتيجة لإستخدام الطاقة بكمية مهولة دون التحسب للمستقبل مما يؤدي إلى إنبعاث غاز ثاني اوكسيد الكربون إلى الجو.. استخدام الكهرباء غير النظيفة.. وحرائق الغابات.. كلها تؤدي إلى ثقب الأوزون.. ونحن في السودان الطاقة بتاعتنا نظيفة.. لأننا بنستخدم كهرباء المياه.. ومشاركتنا في احتراق الأوزون يُشكل نسبة ضئيلة جداً.. لكن نحن النسوان بنزيد النسبة دي بالدخان البنعمل فيهو كل يوم.. هسع لو جمعتي مليون مرة وقعدن يتدخنن في مكان واحد.. وعايني للدخان البيكون طالع شكله كيف.. وما تنسن إننا دولة موقِّعة على إتفاقية كيوتو للحد من انبعاث ثاني اوكسيد الكربون للجو.. عشان كدا لازم نشارك في ساعة الأرض.. وما نحن بس البنشارك في يوم الأرض كمان في دول كتيرة جداً.. فأستراليا مثلاً قررت إيقاف استخدام الكهرباء في أماكن مهمة جداً لمدة ساعة عشان يلفتوا الانتباه..
اها رايكم شنو نحن نوقف الدخان دا نهائي عشان نثبت للعالم إننا بنساهم في الحفاظ على البيئة؟..
يبدو أن سعاد ونادية وسعيدة قد سرحن بعيدا ولم يفهمن ما قالته عواطف..
سعاد :- والله ما فهمنا أي شئ كدي قولي لينا كلمة كلمة وخلينا النشوف آخرتك شنو..
عواطف :- يا نسوان أقول ليكن براحه كدي.. نحن بنحرق في الطلح صح؟..
:- آي صح..
:- اها نحن بحريقنا دا بنسخن الجو.. وفي ناس ساكنين في القطب الشمالي والقطب الجنوبي اسمهم الاسكيمو.. وبى طريقتنا دي الجو حيسخن.. والجليد حيذوب.. والناس دي حتغرق.. وما بعيده نحن كمان نغرق!!..
اها فهمتني ولا لسع..
:- والله فهمنا لكن بقت علي عيدان الطلح ديل يعني..
:- لا ما كدا لكن نعتبرها مساهمة منكن في الحملة دي..
:- هووووووووي يا عواطف... بطلي الشغل البتعملي فيهو دا.. والله نحن بنحافظ على بيوتنا وعلى أولادنا.. والناس التغرق.. إن شاء الله يعدموا طافي النار..
هنا إكفَهَرَّ وجه عواطف ورفعت توبها المنحسر وانسلت خارجة عنهن.. وتواصلت الونسة..
سعيدة :- اها رايكن شنو في كلام المخرفة دي؟
سعاد :- هوووووووي دي مره فاكَّة منها الشغلة وما عندها بيت تحافظ عليهو.. ونحن لا بنسمع كلامها لا حاجة.. نخلي الرجال النشوف رايهم شنو كان قالوا وقفوهو بنوقفه لكن برانا تب ما بنقول حاجة..
ذهبت سعاد إلى بيتها..
ونادية أيضا..
يأتي زوج سعيدة إلى البيت منهكا وبآخر نفس يرمي السلام..
يبادرها زوجها :- شايف عواطف كانت هنا مالها طلعت سريع!..
:- البركة الطلعت والله كان عرفتها قالت لينا شنو تموت بالضحك..
:- اها قالت شنو المرَّة دي؟..
:- قالت لينا الناس عايزة توقف الكهرباء وأي حاجة لمدة ساعة في العالم كله عشان ناس الاسكيمو ما يغرقوا..
:- ونحن مالنا ومال الكهرباء لمبتنا الواحدة دي نوقفها يعني؟!..هي وين الكهرباء.. خلِّي بعد يجيبوا لينا الكهربة ينقطعها عشرة ساعات خلِّي ساعة واحدة..
:- دا ما المهم..
:- اها المهم شنو؟..
:- قالت لينا نوقف الدخان وتاني ما نتدخن..
:- اااااااااااااااااا
:- آي والله
:- المرة دي مجنونة ولا شنو؟!..
:- اها إنتي رأيك شنو؟..
:- قلت أجرب أخلي الدخان..
:- دايرة تخليهو يا سعيدة؟!..
:- يمكن..
:- أقول ليك حاجة..
:- اها..
:- عليَّ الطلاق تغيبي منه يوم واحد إنتي طلقانة وبالتلاتة كمان.. النشوفك بتسمعي كلامي ولا كلام عواطف..
قامت سعيدة بسرعة تجري في اتجاه المخزن.. وأتت بمحفار إلى داخل بيتها..
:- مالك آ مره؟!!..يسألها زوجها..
:- دايرة أحفر لي حفرة دخان..
:- ما هدي عندك محفورة!!..
تلتفت سعيدة الى الحفرة فتجدها بجوارها...هنا ينقطع نفسها....وتتصبب عرقا...
:- اااى عارفاها بس قلت اسو لى تانى واحدة كل حاجة ولا زعلك إت...
تنطلق ضحكة مجلجلة من الزوج...تتبعها دموع من سعيدة....لتعلن وفاء لا حدود له...
يقترب زوجها بحنية ...يربت على رأسها...ترفع رأسها وتقول :-
بتطلقنى االخزين....؟؟؟
:- ها مره قولى بسم الله طلاق شنو بهزر معاك ساى...
ومن يومها اصبحت سعيدة العدو الاول لإتفاقية كيوتو....ولساعة الارض....
بصورة يومية....
وكله من عواطف....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق